د. محمد القضاة يكتب: العربيّـةُ لغةٌ لا تُقهر

د. محمد القضاة يكتب: العربيّـةُ لغةٌ لا تُقهر

العربيةُ هُوِيَّةُ الأمةِ، والوعاءُ الذي يحوي حضارَتَها وفكرَها وتراثَها، ومناسبةُ الحديث عنها الدور الذي تضطلع به الجامعة الاردنية في خدمتها منذ تم تأسيس قسم اللغة العربية قبل نصف قرن ونيف وحصول مجمع اللغة العربية الاردني على جائزة الملك فيصل العالمية في خدمة اللغة العربية، وتؤمن الجامعةُ كما مجمع اللغة العربية الأردني أنّ للغةِ العربيّةِ منزلةٌ كبيرةٌ؛ إذ هيَ هُوِيَّةُ الأمةِ، ولها في أعناقنا دينٌ لا بُدَّ لهُ منَ الوفاءِ، وإنَّ بعضَ الوفاءِ يفرِضُ علينا جميعًا أن ننهضَ بها. أقول: يجبُ إيلاءُ اللغةِ العربيّةِ التي ترتبطُ بتاريخِنا وثقافتِنا وهُويّتِنا كلَّ اهتمامِنا ورعايتِنا؛ بحيثُ تعيشُ معَنا في مناهجِنا وإعلامِنا وتعليمِنا–كائنًا حيًّا ينمو ويتطوّرُ ويزدهرُ، ويكونُ في المكانةِ التي يستحقُّها جوهرًا لانتمائِنا القوميِّ؛ حتى تكونَ قادرةً على الاندماجِ في سياقِ التطوّرِ العلميِّ والمعرفيِّ، لتصبحَ أداةً منْ أدواتِ التحديثِ ودرعًا متينةً في مواجهةِ محاولاتِ التغريبِ والتشويشِ التي تتعرّضُ لها ثقافتُنا؛ خاصّة أنّ المشكلات التي تعترضُ طريقَ اللغةِ العربيّةِ كثيرةٌ، غيرَ أنَّ أكثرَها خطرًا أبناؤها الذينَ تزعزعتْ ثقتَهُم بلغتِهِم، وقلَّ اعتزازُهم بموروثهِمُ الثقافيِّ والحضاريِّ، ممّا يعني أنَّ اللغةَ العربيّةَ لنْ تتمكّنَ مِنَ استعادةِ دورِها إلا إذا استعادَ أبناؤها دورَهم، واستعادوا إدراكَهُم ووعيَهُم لأهميّتِهم في هدايةِ العالمِ وتحقيقِ سِلْمِهِ ورخائه.

وتعد جهود مجمع اللغة العربية الاردني في الحفاظ على اللغة العربية من الجهود الجادة التي تحسب للمجمع واعضائه الذين لا تمّحي اسماءهم من الذاكرة من مثل عبدالكريم خليفة واسحاق الفرحان وهُمام غصيب وعدنان البخيت وعبداللطيف عربيات وعبدالمجيد نصير وخالد الكركي ومحمد حور وجعفر عبابنه والمرحوم أحمد سعيدان وغيرهم، وهؤلاء كانوا يعملون في الصمت ويخدمون العربية بجد واخلاص ، حتى جاء من يقدر دور المجمع وجهوده من خلال قانون حماية اللغة العربية الذي يلزم مؤسسات الدولة الاردنية ووزارتها باستخدام العربية والحفاظ على حضورها وتوظيفها في مفاصل الحياة اليومية ، وجائزة الملك فيصل العالمية تؤكد للقاصي والداني ان الأردن ممثلا بجهود المجمع واعضائه ورئيسه في طليعة الأمة التي تنحاز للغتها وتحافظ على هويتها، ومن المفيد ان نتذكر قول الكاتب الانجليزي (ايه جانسر) صاحب كتاب «الإسلام المقاتل» إن الباحثين الانجليز والفرنسيين يحتارون في اسباب صلابة الانسان العربي التي مكنته من فتح ما حوله من بلدان وحتى حدود الصين والهند. واجروا دراسات مكثفة اسفرت عن الوصول الى ان تحفيظ الطفل العربي القرآن الكريم بما فيه من فصاحة تراكيب وصيغ بلاغية قد حمى الانسان العربي من ازدواجية اللغة والوقوع في براثن العامية، فضلا عما اكسبته قراءته للقران الكريم وحفظه له من طاقة نضالية وصلابه خلقية، ولذلك تحاول قوى التغريب والتخريب والاستعمار محاربة اللغة الفصحى والهوية والفكر، ومعركة العربية اليوم هي معركة الهوية الوطنية والقومية والدينية, والفوز بهذه المعركة مقدمة أولية لكسب المعركة الحضارية التي تحدد مكانة هذه الأمة بين الأمم.

وقانون اللغة العربية يلزم الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية العامة والمؤسسات العامة والخاصة والبلديات والنقابات والجمعيات والنوادي والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والشركات باستخدام اللغة العربية في نشاطها الرسمي… وهو قانون يحمي العربية ويدافع عنها امتثالا لقوله تعالى: «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»، وامتثالا لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: « تعلموا العربية وعلموها للناس فإنها لغة الله عز وجل يوم القيامة»، ولا ننسى غضب عمر بن الخطاب واعراضه حين مرّ على قوم من جيش المسلمين يتعلمون الرماية ولا تعجبه طريقتهم في تسديد السهام فيعرض مغضبا، وعندما يهم بالانصراف يتقدم إليه بعضهم متسائلين: لماذا غضبت يا أمير المؤمنين؟ ونحن قوم متعلمين–هذا الذي يتكلم كان ينبغي أن يقول نحن قوم متعلمون- فيزيد اعراض عمر بن الخطاب، ويقول: «أنظروا والله لخطأكم في لسانكم أشد وقعا على نفسي من خطأكم في الرماية»، وها هو الرافعي يقول: ما ذلت لغة شعب إلا ذلّ, ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، هذه أمثلة حية تبين حفاوة العربي بلغته. وكيف نكون عرباً ولا نحسن لغتنا؟ أقول كما قال فاروق شوشة ذات يوم: لا يوجد شعب في العالم مشرقه ومغربه علاقته بلغته القومية مهتزة إلا الشعب العربي، وكثير من الشعوب ترفض التحدث بغير لغتها اعتزازاً بها وتعبيرا عن انتمائها القومي عبر تمسكها بلغتها، هذه خطيئة عربية آن تجاوزها؛ لانه لا يوجد انجليزي أو هندي أو فرنسي لا يحسن الكلام بغير لغته، فكيف يتقدم العرب بغير لغتهم، حيث لا توجد دولة في العالم تنطلق وتتقدم تكنولوجيا دون الاعتماد على لغتها. وتحية صادقة لمجمع اللغة العربية الأردني الذي نال هذه الجائزة العالمية, وهي نصر للعربية والحرية والحياة.

وبعدُ، فإنَّ واقعَ اللغةِ العربيّةِ، مهما يكُنْ شأنُ أهلِها معَها، ومهما تكُنِ الصعوباتُ التي تعترضُ سبيلَها أوِ الهجماتُ التي تتلقاها، يَشي بأنها لغةٌ حيّةٌ لا تُقهرُ، خالدةٌ بخلودِ القرآنِ الكريم ِالمحفوظِ بالمشيئةِ الإلهيةِ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ». وإذا كان من شكرٍ فهو للجامعة الأردنية التي تفتح الآفاق الواسعة أمام هذه اللغة من خلال توفير أسبابَ النجاح والفلاح كي تبقى الجامعةُ منارةً علميةً شامخةً بين مناراتِ الوطنِ وجامعاتهِ. والشكر لكوكبةِ العلماء في مجمع اللغة العربية الذين يعملون الليل بالنهار لخدمة العربية، ولكلِّ إنسانٍ يخدمُ هذه اللغة ويحتضنُها كي تبقى صورةً ناطقة عن هويتِنا ووجودِنا وحضورِنا الحضاري.

مقال رأي للدكتور محمد القضاة نقلا عن صحيفة الرأي الكويتية


إضافة تعليق