د. مصطفى العلواني يكتب: مرونة اللغة العربية

د. مصطفى العلواني يكتب: مرونة اللغة العربية

لعل قصيدة حافظ إبراهيم التي قالها عن اللغة العربية (اللغة العربية تتكلم عن نفسها):

رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي

وناديت قومي فاحتسبت حياتـــي

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

وسعت كتاب الله لفظاً وغايــة

وما ضقت عن آي به وعظـــــات

خير دليل على أهمية اللغة العربية واستيعابها لدقائق الأمور وأجد المخترعات وهي أهم من هذا وذاك لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحب العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي رواه البخاري ومسلم، فهي إذن لغة مقدسة فيها من السمو والبلاغة ما تعجز عنه بقية اللغات هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهي تعبر عن أدق الأحاسيس وأخفى المشاعر، فكلمة الحب غير كلمة العشق وكلمة جلس غير كلمة قعد، فهنالك فارق بين معاني الكلمات إذ لم يضع العرب كلمتين بمعنى واحد وما اشتبه منه ربما خفي علينا، فلم نستطع التفريق وهذا دليل على غنى اللغة وحساسيتها وعدم اضطرابها.

واللغة العربية مطواعة تتجاوب مع المخترعات والمستجدات وقد اعتنى بها العرب وأحاطوها بضروب من العناية والتقديس ومن يقرأ رسائل إخوان الصفا يشاهد بأم عينه كيف أنهم يتصرفون بها ويجدون المقابل لما يترجمونه وإذا لم يجدوه اشتقوا ذلك واعتمدوا أعلى ما تمتاز به اللغة العربية من مرونة وخصائص وبذلك لم يجد الأقدمون حين ترجموا عن الهند واليونان وغيرها من اللغات أي عنت واستحالة.. ولعل ما قام به حنين بن إسحاق من مواليد الحيرة سنة 809 للميلاد خير دليل على قدرة اللغة العربية الاشتقاقية وإمكانياتها التي تتيحها أوزانها لنقل المصطلح الأجنبي فقد جاء في مقال للدكتور أحمد جوهري نشرته مجلة عالم الفكر الكويتية في العدد 1 من عام 2014 تحت عنوان (الترجمة العربية.. جذور الممارسة وبذور النظر) كيف استعمل حنين بن إسحاق صيغ المصادر للدلالة على أسماء الأمراض مثل (وزن فَعَلَ: وجع، خدر، زلق) (وزن فعلان: سيلان، خفقان، إثيان) وكيف ساهم في وضع المصطلح العربي المقابل للمصطلح اليوناني مثل مصطلح طبقة الشبكية، كما اعتمد حنين في توليده للمصطلح العلمي العربي على تقنيتين أساسيتين، هما: تقنية استحداث ألفاظ جديدة وتقنية تحويل المعنى كاستعمال لفظ عام للدلالة على معنى نوعي.

واللغة العربية كما قالت عن نفسها في قصيدة الشاعر المصري حافظ إبراهيم أنا البحر في أحشائه الدر كامن تحتاج إلى يد صناع وغواص ماهر لكي يلتقط جواهرها وفوائدها، لأن اللغة تنمو بالاهتمام وتتطور بالعلوم وتموت بالإهمال وبالاهتمام بغيرها، لذلك علينا الاهتمام بها والتشبث بها والعض عليها بالنواجذ ومن الخطورة أن نجد في بعض البلدان العربية من يهجرها ويتعامل مع لغات أخرى في التعامل اليومي

وقد سهل علماء اللغة القدماء قضية التصرف بها فوضعوا الأصول والأبعاد حتى تظل حية مستوعبة لمستجدات العصر، فهي لغة مرنة ليست جامدة وأكبر مثل على ذلك أنه حين أنشئت كلية الطب في مصر في زمن محمد على باشا ترجمت كتب الطب إلى العربية ودرس الطب بالعربية وللأسف فإن تدريس الطب اليوم في مصر باللغة الإنجليزية ومن يرى غير ذلك، فعليه باليابان وروسيا وغيرها، فإن فيهما أكبر مثال يحتذى، وتعد سوريا الدولة الوحيدة في العالم العربي التي تدرس الطب باللغة العربية في الوقت الحاضر.. (وقد كان معظم أساتذة الطب في دمشق في البداية أعضاء في المجمع العلمي العربي في سوريا).

واللغة العربية هي الهوية القومية للإنسان العربي والحفاظ عليها هو حفاظ على هذه الهوية وإبقاء لهذه الأمة على قيد الحياة وإبعادها عن الاستلاب والاندثار، واللغة العربية تصل الماضي بالحاضر، فما زلنا نقرأ أشعار امرئ القيس، كما نقرأ أشعار معاصرة لنزار قباني وبالمقارنة فإن الفرنسي لا يستطيع فهم لغة أجداده القدماء وكذلك الإنجليز وغيرهم، واللغة وسيلة تفاهم وتواصل بين الأقطار العربية المختلفات، فاللغة وجود وحياة وعلم وحضارة وهوية فبدونها ذواب وانمحاق.

لذلك يجب أن نحافظ على هذه اللغة ونعض عليها بالنواجذ ونطورها وننشئ لها المجامع ونقيم الأبحاث ونسعى لاعتمادها بالجامعات بدلاً من اللغات الأخرى، فليست اللغة هي العائق ولا هي بالعقيمة، بل هي مطواع ولود وعلى الإنسان العربي أن يفجر طاقاتها ويبحر في أبعادها ويستخرج كنوزها وينزلها المنزلة العليا التي تستحق، (وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم) ومن جهة أخرى فعلينا أن نحسن لغة المدرسين ونحملهم على التقيد بالعربية الفصحى حتى نلقن أبناءنا اللغة السليمة ونحبب اليهم قراءة القرآن الكريم والمأثورات الشعرية والنثرية الفصيحتين حتى تستقسم ألسنتهم ويتقيدون باللغة العربية، كما أنه علينا أن نحرص على استقدام العمالة ممن يتكلمون اللغة العربية لأثر ذلك في الجيل والمجتمع.. فاللغة العربية عز الأمة، فالعناية بها عز للأمة بها ترتفع الأمة وتضاهي الآخرين، كما قال الشاعر حافظ إبراهيم:

أرى لرجال الغرب عزا ورفعة وكم عز أقوام بعز لــــــــغات.

مقال رأي للدكتور مصطفى العلواني نقلا عن صحيفة “الوطن” القطرية


إضافة تعليق