رامي أبو شهاب يكتب: اللغة العربيةُ والاختلال في التّمثيلات والمقاربات.. أنساق التّلفيق

رامي أبو شهاب يكتب: اللغة العربيةُ والاختلال في التّمثيلات والمقاربات.. أنساق التّلفيق

أهم ما تتسم به اللغة تكوينها الثّقافي الحيوي الذي يتيح تحقيق أكبر قدر من الدّيمومة والتأثير، في حين أنّ معظم التّصورات والمقاربات المنهجية لا تعترف إلا بالتّكوين اللغوي المتعالي، علاوة على التّوجهات الأيديولوجية، وهي في معظمها متحيّزة، لا تحتمل قدراً من المصداقية إلا بحدود ضيقة جداً.

فالمتأمل في المقاربات المنهجية لتعلّم اللغة العربية، يجد أنها لا تتصل إلا بلغة منزاحة عن الحياة، فهي لغة نصوص وعظيّة، أو مقالات محكمة اللغة… جافة، لا تتصل بما هو قيمي، أو حقيقي، بل إن معظمها لا يستند إلى ثقافة الحياة، علاوة على تجافيها عن الواقع، كونها تتبنى وجهات نظر مؤلفين يتبعون سياسات، وقيم معظمها موجه وايديولوجي بهدف بناء الذّاتوية الوطنية للقُطرية الضيقة بمعزل عن العمق الحيوي للثقافة العربيّة والإنسانيّة بتجلياتها الحضاريّة، فالصّورة المشرقة للغة العربية تكاد تتلاشى عبر هذه المقاربات السّطحيّة، وهنا لا بد من التّنبه إلى بعض الاختلال في التّمثيل، فأغلب النصوص تحتفي بواقع لا وجود له، ومن هنا تفقد العربية مصداقيتها كونها ذات نسق تلفيقي.

إن معظم النصوص لا تبدو ذات اتصال بالعالم الحقيقي، كونها ذات طبيعة مثاليّة، لا تتصل بسياقات الواقع، كما أنها غارقة في غيّها، وبوجه خاص من حيث عدم قدرتها على عكس تجارب، ونبض الحياة بتعقيداتها، وحقيقتها، فالنصوص غالباً ما تمجّد شخصيّات أو أحداثاً لا تعكس حيوية الثّقافة العربية، وواقعية منتجها. فالتّاريخ والمنظور كلاهما ملتبس حيث تتناسى المُنجز الحضاري التاريخي العربي الموروث والمعاصر على حد سواء، ولاسيما المُخالف أيديولوجياً. فالمتعلمون يجهلون الكثير من الأسماء التي ارتبطت بالمنجز الحضاري العربي بسبب هيمنة بعض الرّؤى القائمة على سياسات تعلمية ترتبط بالدولة، ومذهبها السّياسي، والتي تحكمها توجهات فكرية مناهضة لقيم التفكير العقلاني الناقد، وهنا، لا بد من الإشارة إلى هيمنة الفلسفات المقاومة للحياة، والجمال، فليس ثمّة رؤى تتصل بالمنظورات المستقبلية، إنما هي كامنة في الماضي، وهذا ما يعني أنها غير متوازنة في تأسيس وعي حضاري، ما يدفع المتعلمين للاختلاف إلى بعض النماذج الحضارية الأخرى في ثقافات تعدّ أكثر تقديراً لقيم الحياة والجمال.

لا بدّ للغة من أن ترتبط بواقع ثقافي قائم على الإنتاج المعرفي، فاللغة ذات تعالق بالمستويات الحضارية، لا الأيديولوجية الموجهة تبعاً لسياسات لا تراعي الآخر، وقيم الاختلاف، وحقوق الإنسان، وهذا ما نعثر عليه في دراسة بعنوان “السياسة اللغوية” لجيمس طوليفسون، إذ تميط اللثام عن بعض التداخلات في تلقي اللغة الوطنية عامة، فدور اللغة ليس اعتباطياً كما يظن البعض، ولا سيما في السياقات الاجتماعية، بل هي متجذرة، وعميقة التأثير، فاللغة المعيارية ترتبط بالإطار السياسي أيضاً، فالذين لا يتقنون اللغة الوطنية لن يستطيعوا أن يمارسوا حقوقهم السياسية كاملة، كما يشير طوليفسون، وهنا نلمس أثر الممارسات الخارجية على تعلّم اللغة، ولا سيما في ظل ما بات يُعرف بالسّياسة اللغوية.

لابد من الإشارة إلى أن غير دراسة تتبنى تعلم اللغة عبر النمط الثقافي، وهو ما يمكن أن ننعته بالجانب الحضاري للغة، فتعلّم اللغة ينبغي أن يتعالى ليكون نمطاً من تعلم اللغة لا التعلّم عن اللغة، كما يرى ريتشارد سويديرسكي، وهنا نشير إلى أن اتجاهات تعلّم اللغة، وأعني اللغة المكتسبة بوصفها لغة ثانية، التي أصبحت في بعض الاتجاهات الحديثة تتجه إلى هذا المقترح. فكي تتمكن من اكتساب اللغة، أي لغة، ينبغي أن تنغمس في معرفتها ثقافياً، وبخلاف ذلك، فإن التعاطي مع اللغة سوف يبقى في حدود الإجراء الشكلاني، أو النسقي، أي ضمن القيم الهيكلية التي لا تتيح فهم خصوصية اللغة بوصفها ممارسة حياتية واجتماعية، وهذا يفسر انحطاط اللغة، خاصة إذا ما نظرنا لها من موقف الإنسان التاريخي القائم على الاستعمال، أو بوصفها وسيلة أو أداة للتواصل، فاللغة غاية، حيث كانت دوماً تعد أثراً فنياً يسعى إلى تمثيل نفسه، كما جاء في المعجم اللغوي لدكرو وشافار، ولهذا ينبغي أن نعمل على تطوير رؤيتنا في ما يتعلق باللغة، وتعلمها.

وإذا كان المقترح السابق مبرراً للغة الثانية، أو اللغات الأجنبية، فإنه يبدو مبرراً لتطبيقه في تعلم العربية، وهذا يأتي عبر توفّر مسوّغ قائم على وجود فجوة حضارية بين متعلمي العربية، وثقافتهم التي تعرضت للإقصاء أو للتحوير نتيجة هيمنة الثقافة الغربية، والتقنيات الرقمية بفعل القوة الحضارية للغة الإنكليزية، وهنا أعني عملية الاختيار لمكون اللغة، وتمثيلاتها في الوعي لدى المتعلمين، فاللغة العربية لا يمكن أن تكون قائمة عبر تلك المنهجية، والنصوص والمقاربات التي توضع من قبل بعض واضعي المناهج، التي تعبر عن تحيزات ووجهات نظر لا تمت بصلة للشكل والقيمة الحضارية للغة العربية، بالتجاور مع إيغالها بالمقاربات التربوية البائدة، أو التي تنحو منحى التقليد الغربي، وبذلك فهي منعزلة عن سياقات الواقع الثقافي، ولكونها متمترسة خلف قناعات تستقي قيمتها من تكريس أنماط من السلطويات الثقافية والسياسية، ولا سيما ما هو قائم في بعض البلدان، حيث تُسارع إلى تبني أنظمة لا تتسق وأنساق اللغة العربية، من خلال تبني فلسفات تعليم لدول متقدمة لا تواجه أزمات حضارية، أو على العكس من ذلك، فإننا نجد مناهجنا موغلة بالبدائية من حيث هيمنة الطابع اللغوي الأداتي، والتحيزات لأشكال، أو محتوى لغوي غير واقعي، ومنفصل عن حقائق العالم، فغالباً ما نضحي بالجمالي على حساب الأيديولوجي، وهنا أدعو إلى تفعيل الصيغ الإنسانية المشتركة، من حيث كون اللغة أداة تعبير عن الإنسان في المقام الأول، فهي ليست أداة للقهر، والصراع، وتكريس الطّاعة، ولعل دراسات تعنى بهذا الجانب من شأنها أن تتلمس مدى الاغتراب الثقافي في مناهجنا، والتي تنحو إلى تزييف واقع المتعلّم بنصوص موضوعة لأهداف أداتية (نموذج لغوي)، أو لأسباب أيديولوجية.

لا شك بأن الحضارة تتصل بذلك التّقدم في بنى العقل نحو تفعيل قيم البحث، وهنا لا بد أن يتصل ذلك بمسلك ووعي حقيقيين. فثمة الكثير من المقولات التي تجعل من اللغة مرتبطة بالقوى الحضارية، فالأفول الحضاري والتراجع، يعني أن اللغة سوف تشكل تابعاً لهذا النمط، ولهذا فإن مقاربتنا في هذا المستوى ترى أن اللغة لا يمكن أن تزدهر إلا في سياق تفعيل البنى الحضارية لأي أمة، ولعل في مستوى التطبيق علينا أن ننظر ضمن إطارنا الحضاري الإسلامي الذي انتشر نتيجة التبادل التجاري(مسلك حضاري)، وتحديداً في مناطق شرق آسيا، فالممارسة الحضارية أدت إلى الصيغة الثقافية القادرة على ترجمة الحضور والبقاء والاستمرارية، وهكذا هي اللغة التي لا يمكن لها أن تنهض، وتتجلى إلا في سياق حضاري صحي، وفاعل، ولهذا فإن أي نمو وازدهار للغة، لا بد أن يحاذيه مستوى حضاري ما، وأي مقاربة للنهوض باللغة، ولا سيما في سياق تعليم النشء، لا بد أن تتصل بوجود بيئة حضارية مناسبة، وأي إجراءات أخرى لا تتصل بهذا البعد، فإنها لن تؤتي النتيجة المطلوبة، كون اللغة في وعي متكلميها غير مقدّرة، وهذا يذهب إلى مستوى التمثيل للغة في وعي المتكلمين، وهذا ما يدفعنا لإيلاء البحث في مستويات تمثيل اللغة في عدد من القطاعات منها، الإعلام، والشارع، والمناهج المدرسية، والمجتمع عامة، في حين يتجلى المستوى الثاني عبر قراءة نقدية للتكوين الحضاري للغة العربية، وتفعيل النموذج الحضاري من خلال خرق الممارسات والتمثيلات السلبية، بالتراصف مع محاولة خلق مستوى حضاري، وثقافي، يعيد اللغة العربية، بوصفها لغة منتجة للمعرفة، بموازاة التركيز على البعد الجمالي والإنساني للغة، وهنا دعوة للتخلص من النظر إلى اللغة بوصفها الأداتي، إلى التوجه نحو اللغة بطابعها الثقافي الحضاري.

لا شك أن الثقافة يجب أن تكون حاضرة في فضاء التعلّم، وأن تكون الثقافة قابلة لمستويات من التعبير عن المعني الحياتي، وهنا ينبغي أن ندعو إلى وضع مناهج والمقاربات التعلميّة بعناية بحيث تكون هنالك مواءمة بين المنجز الحضاري العربي ممثلا بقيم تنويرية، تظهر الجوانب المشرقة للثقافة العربية بوصفها حضارة تسامح وعلم وثقافة وجمال، كما ينبغي أن نقوم بخلق مستوى من التعبيرات اللغوية الواقعية، كأن توضع مواقف للتعبير عن الغضب، والفرح، والحزن، والحب، وغير ذلك من المواقف التي يمكن للغة أن تنهض للتعبير عنها، وهذا يساعد الطالب على أن يدرك اللغة عبر اختبار تلك اللغة، وأنساقها من خلال تلك المواقف، والدروس، حيث نقع على مستويات التركيب والمفردات والبنى النحوية المستخدمة في هذه المواقف الحضارية، ولكن في سياقاتها الحقيقية، وهنا يمكن أن نستعين بحوارات ومواقف وأشعار، وغير ذلك، إذ لا أعتقد أن ثمة نصوصاً أو مناهج عربية تدرس الهجاء السياسي، أو النقد السياسي، كونها معنية بتمجيد الحاضر السلطوي، وتعطيل العقل النقدي، في حين أن هذا الحاضر لا يعكس الحقيقية، فواقعنا الثقافي والسياسي والاجتماعي غاية في الرّداءة، وهنا بالتحديد أشير إلى عملية انفصام المنهج ثقافياً عن واقع المتعلّم ما يجعله غير مصدّق، أو لنقل لا يحترم ما يوجد في المقررات المدرسية كونها لا تطابق واقعه الحضاري حيث تقع الثقافة العربية في ذيل القائمة، وهنا لا بد أن نكون واقعيين حين نشعر المتعلّم بتعالي ثقافته في الماضي، ولكن في الوقت عينه أن نجعله يستشعر أن لغته، وثقافته تعبر عن واقعه، وأن عليه مسؤولية النهوض بها وتقديرها، والدفاع عنها، فغير دراسة تذكر بأن الثقافة ليست ثابتة، فهي عرضة دائماً للتحولات، كما أنها تمتلك قدراً كبيراً من التباين على مستوى الزمن، وكذلك المكان، وهنا أحيل القارئ إلى دراسة مايكل كاريذرس” لماذا ينفرد الإنسان بالثّقافة؟”.

لا شك بأن تعاملنا مع الثّقافة بوصفها ثابتة، فإننا بهذا سوف نرتكب خطأ بحق المتعلمين الذين لن يتمكنوا من إدراك واقعهم الثقافي؛ ولهذا فإنهم سوف يسارعون إلى نبذ اللغة لكونها كاذبة ومخادعة.

مقال رأي للكاتب الأردني رامي أبو شهاب نقلا عن صحيفة “القدس العربي”


إضافة تعليق