عبد اللطيف الزبيدي يكتب: تناغم المعاني في الضاد والحاء

عبد اللطيف الزبيدي يكتب: تناغم المعاني في الضاد والحاء

موسيقى اللغة العربية تعشق التوافق والتناغم والهارموني. ترى المفردات مختلفة متباينة، يحسبها غير العارف شتى متباعدة، ولكنّ أنغامها ومخارج أصواتها بينها أواصر مختبئة في الحروف، تغمز من بعيد غمز النجوم. عيد الأضحى على الأبواب، فلنصغِ إلى لغتنا، وهي تعزف على الضاد والحاء، وتفجّر منهما الومضات والأشعّة والأضواء والأنوار، تخطف الأبصار، وتبهر الأفهام والأفكار.

هل من صلات بين الضحى والضحيّة والضحك والفضيحة والوضوح، بين الشمس والشاة والبيان والابتسام، والشجرة التي لا ظلّ لها والليلة القمراء وتناول الغداء؟ للغة العربية معالج بيانات، خزّن في قرصه الصلب كل تلك المعاني المفترقة، وصورها المتنافرة المتناثرة، في ملف واحد، يستدعيه بنقرتين على الضاد والحاء. ما الذي دار في دماغ العربية حتى جعلت الضياء ينبثق من هذين الحرفين؟ أليس عجيباً أن تتكلم وتُخرج الأصوات، في حين أن اللغة هي التي تخيّلت، وكتبت لك التدوين الموسيقيّ الذي يجب أن تعزفه أوتارك الصوتية؟

أخذت العربية الحسناء المبدعة في الرسم والغرافيك والتأليف الموسيقيّ، حرفي الضاد والحاء، وجعلتهما مفتاح الإشعاع، وأضافت إليهما حرف علّة، فلدينا جذور ضحا وضحو وضحي. لم تنس حروفاً أخرى في ثلاثيّات أخرى: وضح، ضحك، فضح إلخ. اختارت الضحى والضَّحاء للشمس والضياء، والضحيّة لارتفاع النهار، فتضحّى الناس، وتناولوا غداءهم، وضحّوا إبلهم، أراحوها بعد المسير، تركوها ترعى إلى أن تشبع في الضحى، كما ضحّت الأغنام الماء ووردته ضحى.

في الأثناء ضحّى القوم بشاة ذبحوها ضحى، واشتووا في«باربكيو». بعد غروب الشمس حطّوا رحالهم، وكانت الليلة ضحياء مضيئة مقمرة من أوّلها إلى آخرها، فتسامروا بالأشعار، وتجادلوا في ما ليس في كلامه ضحى، أي بيان واضح، وطلبوا من صاحبه أن يُضحّي عن الأمر أي يوضحه، فالوضوح هو أن يضيء المعنى ويبين. هنا أمر العقلاء بالتضحية في الجدال، أي الرفق والتأني. رأوا فارساً مقبلاً، فسأل أحدهم: لمن هذا الجواد الأبيض؟ فضحكوا، أي بدا ضياء تبسمّهم، وقالوا له: لا تقل حصان أبيض، قل أضحى. في الغد، بعد طول المسير استراحوا، لكن الأشجار كانت ضاحية، أي عارية دقيقة الأغصان لا ظلّ لها، فلم يجدوا بدّاً من الاستراحة تحت الضّح (بالكسر) أي الشمس، والوِضح (بكسر الواو) أي نور النهار، فأتتهم نعمة السماء، تلبّدت الغيوم وضحك البرق. وقع بعضهم في حرج، لم يكن لديه زاد، فقيل له: لا تخش الفضيحة والانكشاف، والفُضحة هي الصبح، وزوّدوه، فما ضحضح أمره ولم ينكشف.

لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: حين نقرأ أخبار الحروب، لا تخطر على البال مشاهد تاريخ الضاد والحاء: البشر شواء لغير الأكل.

مقال رأي للكاتب عبد اللطيف الزبيدي نقلا عن صحيفة “الخليج” الإماراتية


إضافة تعليق