في مديح الفاصلة بقلم سمير عطا الله

<!--:ar-->في مديح الفاصلة بقلم سمير عطا الله<!--:-->

عودة إلى ما يسميه اللغويون «علامات الترقيم»، ويسميه آخرون «التنقيط». وهو في العربية علم حديث نسبيًا بدأه في مصر قبل أكثر من قرن أحمد حسن باشا، الذي كُلِّف ترجمة الإشارات المستخدمة في الغرب تحت اسم بنكتويشن (Punctuation)، وما زلت أعتقد أن الترجمتين غير دقيقتين، مع أنني لا أملك أن أعرض بديلاً أدق. فالإشارات المذكورة لا هي نقاط ولا أرقام، وإنما رسوم كالأحرف الهيروغليفية تُضاف إلى الكلام لكي تساعد الأحرف على شرح معانيها. للأسف لا يهتم كثيرون بهذه العلامات، فلا فواصل تهدّئ من سرعتك وأنت تقرأ، ولا من فقرات تُعلم لك نهاية شيء وبدء شيء آخر، ولا ضمن نص واحد. ولا علامة استفهام، أو تعجب، تعطي النص النبرة المطلوبة. يقول الغربيون إن الفاصلة هي أهم العلامات أو الإشارات.

كان سعيد فريحة مفتونًا بسحرها وكأنها في اللغة، حتى كان أحيانا يملي «الجعبة» بادئًا بوضع فاصلة قبل أن يقول أي شيء. يقول الأميركي الهندي بيكو لاير، إن الترقيم يضبط عمل القانون في النصوص. وإن العلامات تشبه في التواصل تلك العلامات الموضوعة على الطرق، والتي تحدد لنا الاتجاهات والسرعة والمفارق. فالنقطة أشبه بالضوء الأحمر، والفاصلة ضوء أصفر يطلب منّا التمهل، والفاصلة المنقوطة إشارة توقف تطلب التمهل التدريجي نحو التوقف الكلي، ومن ثم الانطلاق من جديد. عندما نستخدم الترقيم لتنظيم العلاقة بين الكلمات، ننظم تلقائيًا العلاقة بين قارئيها. والفاصلة، خصوصًا، أو الفارزة، كما يسميها البعض، تفصل ما لا ينفصل، وبسحرها تجمع ما يصعب جمعه. إذن، نحن هنا أمام انضباط يشبه الانضباط الأخلاقي. إنها تعاليم، لا أوامر ولا تعليمات. تجاهُلها ليس خطيئة، لكن العمل بها إضافة بالغة الحسن. في العصر الفيكتوري المحافظ التزم بها أهله التزاما شبه مُطلق. لكن المحدثين في بوابة القرن العشرين، تمردوا على تلك القواعد وكأنهم يتحدّون وجودها.

كان أبرز هؤلاء الآيرلندي جيمس جويس، الذي أحدث ثورة في الرواية أيضا عندما جعل بطلته، موللي بلوم، تشكو على مدى 36 صفحة، من دون فاصلة واحدة. يشعر المرء أن الفواصل وعلامات التعجب وعلامات الاستفهام والأهلّة جزء من حرمة نص الكاتب، واحترام لاطلاع القارئ وحسه الأدبي والمعرفي. هذا طبعًا إذا كانت العلامة في مكانها، تمامًا كما هي الكلمة في مكانها. أما إذا كانت الاثنتان مجرد مكدساتٍ عصبية، فكل شيء سواء. الإكثار في النصوص المفتعلة، كالإكثار في الأطفال الذين يولدون لكي يُرموا في الشوارع والأزقّة والمجاعة والفقر والثياب البالية والحياة المعذبة وتحميل الأوطان ما لا يمكن أن تتحمله. اللغة هي الإنسان. واللغة العربية فاتها علامات كثيرة موجودة في اللغة اللاتينية، كالحرف الكبير للدلالة على أسماء العلم، أو على البدايات والفقرات، لكنها عوَّضت عن ذلك كله بثراء مذهل في التنوع والمفردات. في حين أن اللغة الصينية، مثلاً، خالية من العلامات، لكنها أيضا بعيدة عن غنى العربية. لا شك أن عمل أحمد حسين باشا شكَّل إضافة راقية في استخدام اللغة. والإضافة القابلة للحياة سرعان ما تتحول إلى جزء من عمل الجسم وحياته.

 


إضافة تعليق