موفق ملكاوي يكتب: الفضائيات والإنترنت واللغة العربية

موفق ملكاوي يكتب: الفضائيات والإنترنت واللغة العربية

قبل أكثر من عقدين، كان الأطفال، وحتى سن ما قبل المدرسة، يتحدثون بلغة عربية فصيحة، متأثرين بكمّ هائل من البرامج والمسلسلات التي كان المنتجون حريصين فيها على اللغة، وبتقديمها بطريقة جاذبة.

كنّا نتفاخر بأن أطفالنا قادرون على إقامة حوار طويل، مستخدمين فيه خبراتهم اللغوية التي اكتسبوها من تلك البرامج، ما أوجد جيلا متمسكا بلغته، عارفا بسحرها، وقادرا على التحدث بها من غير أخطاء كثيرة.

اليوم، تبدو الصورة مغايرة تماما، وغاية في السوداوية، فكتابة الأطفال والشباب أضحت باللهجة العامية، أو بـ”الأرابيزي” أو بالإنجليزية، أما أحاديثهم فهي بعيدة جدا عن اللغة الأم، وغير قادرين على التحدث بالفصيح ولو لدقيقة، وما من شيء يعيدهم إلى جادة الصواب.

في دراما الكبار، وفي برامج ومسلسلات الأطفال، تبدو الصورة سوداوية، إذ باتت تتم دبلجتها باللهجات المحلية، ويتابعها الأطفال من المحيط إلى الخليج، لتعزز لديهم تلك اللهجات وتكرس المحكيات على حساب اللغة الأم التي أصبح اضمحلالها خطيرا، ويؤشر على بوادر موت في الحياة اليومية.

أطفالنا، ما دون سن العاشرة في الأردن، يتحدثون عربية هجينة، تتبدى فيها اللهجة الخليجية، تبعا لسيطرة الإنتاج الخليجي على معظم سوق برامج الأطفال. أما الكبار، فهم مدمنون على المسلسلات التركية المدبلجة باللهجة الشامية، والتي ساهمت أكبر في هدم الفصيحة، وفي مزيد من الغربة معها.

في عالم الإنترنت، يبدو الواقع أشد قسوة وإيلاما، إذ إن ما يتم إنتاجه بالعربية لا يتعدى 5 % من حجم المحتوى العالمي، ولا أدري تماما إن كانت هذه النسبة تشمل آلاف الصفحات من المدونات والمنتديات “الهجينة” التي لا تحترم اللغة وقوانينها. أما مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها تعطينا مؤشرا على واقع اللغة العربية الذي يعيشه أكثر من جيل، فمعظم ما فيها بالمحكي، أو بعربية ركيكة مليئة بالأخطاء.

في المدرسة، تراجع، كذلك، الاهتمام باللغة، وأصبحت أقل حضورا في الحصص المدرسية، خصوصا إذا علمنا أن الطلبة اليوم يكتبون بشكل أقل عما كانوا يفعلون في السابق – حصص الخط والنسخ -، كما أنه حدث تراجع كبير في الاهتمام بحصص التعبير التي تنمّي بذور الإبداع، وتركت الأمر للوحات مفاتيح الهواتف النقالة والكمبيوترات!

المسألة ليست فتحا لباب الندب واللطم والتلاوم على المسببات، بل هي تأشير على أمر خطير يصيب لغتنا في مقتل، خصوصا أنها لم تعد موجودة في الاساس إلا في الكتب المطبوعة، وليس كلها أيضا، فهناك من بات يدعو إلى التأليف والطباعة باللهجات العامية، وهو الأمر الذي قد ينهي امتياز الفصيحة بالكتب، بعدما كان الأمر مقتصرا على حدود ضيقة.

المسألة تعيدنا إلى تعريف اللغة في الأساس، ليس كأداة تواصل فحسب، بل كوعاء ثقافي شامل، وفي حال موتها أو اضمحلالها فإننا نفقد المشترك الثقافي بين الشعب الواحد، ما يؤدي بالتالي إلى موت للعادات والتقاليد والسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكلت عبر قرون.

حتى حروفنا، تجرأنا اليوم واستبدلناها بحروف لاتينية وأرقام وإشارات، لـ”تسهيل” حواراتنا عبر العديد من تطبيقات المحادثة والتراسل، وهو أمر يضعنا أمام سؤال مهم: هل اجتزنا نقطة التراجع عن ذبحنا لغتنا، أم أن الأوان لم يفت لإصلاح الأعطاب الكثيرة التي أثرت عليها؟!

مقال رأي للكاتب موفق ملكاوي نقلا عن صحيفة “الغد” الأردنية


إضافة تعليق