نجاح حلاس يكتب: لغتنا العربية تتحدى دعوات الغرب

نجاح حلاس يكتب: لغتنا العربية تتحدى دعوات الغرب

إن ما مرّ على اللغة العربية من دعوات لتهشيمها، وتهميشها مرتبط تماماً بالمشروع الغربي الصهيوني الذي يسعى اليوم جاهداً لتفتيت الأمة العربية وتقسيمها، ليتمكن من السطو على خيراتها ومقدراتها، وثرواتها كما سطا عليها سابقاً من خلال معاهدة سايكس بيكو وغيرها من معاهدات بقصد توزيع ثروات هذه الأمة حصصاً بين هؤلاء الذين نرى صورهم تتكرر ثانية على ساحة المشهد السياسي الحالي مكشرين عن أنيابهم، متهيئين للانقضاض كما ينقض الوحش على الفريسة.

ومن أولى بنود مخططاتهم التي تقوم بصنعها مراكز أبحاث استراتيجية القضاء على الهوية العربية من خلال القضاء على فكرها وتاريخها وأصالتها الحضارية ولغتها، وهذا ما قرأناه في صفحات التاريخ عن حملاتهم الجائرة  ضد العرب والعروبة وإساءاتهم لتراثنا العربي واتهامه بالجمود، والدعوة إلى التغريب الذي جملوا صوره في عيون البعض ليكون هذا الغرب بكل ما يحمله من أفكار وسموم مرجعاً لنا يقطع الصلة بيننا وبين ماضينا ويجعلنا تابعين له.. إضافة إلى دعواتهم الكثيرة لاتخاذ العامية بديلاً عن اللغة العربية الفصحى بقصد إحلال اللهجات المحلية بدل العربية الفصيحة وهذا مخطط قذر للقضاء على لغة حضارية عمرها آلاف السنين .. لغة لها تاريخ عظيم وهي خزان معلومات في كافة المجالات العلمية والأدبية والفكرية والفلسفية والتاريخية والجغرافية.

والحقيقة أن الغرب بمراكز أبحاثه استطاع أن يستغل فترة انتشار الأمية بعد دحر العثمانيين من بلداننا مستغلاً كل الظروف التي أحاطت بأمتنا العربية من ضعف الشعور القومي نتيجة الاحتلال التركي الذي جثم على صدر هذه الأمة أربعة قرون، ودعوات التبشير التي كانت تضع السمّ في الدسم إضافة إلى الجهود الاستشراقية التي وظفت توظيفاً استعمارياً في الوطن العربي والتي كانت تحمل غايات وأهدافاً للمدى البعيد وهو ما نرى نتائجه اليوم على الأرض من خلال التكالب الغربي الأمريكي الصهيوني على خيرات الأمة العربية وخاصة ثرواتها من النفط والغاز الطبيعي.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر موجة الدعوة إلى اليقظة والتحرر التي كانت تحمل في خفاياها فكرة إيصالنا إلى حالة نقلّد فيها الغرب تقليداً أعمى يحولنا من منتجين حقيقيين للحضارة إلى تابعين عميان لا ابتكار لديهم ولا إبداع.

ولعل كثيرين ممن بهرهم الغرب انساقوا خلفه، وشدتهم ترهاته البراقة ناسين أنهم من أمة لها جذور وحضارة سطعت شمسها على هذا الغرب وكانت السبيل لإخراجه من ظلمات العصور الوسطى إلى النور.

إذاً في ظل هذه الظروف الصعبة قامت دعوة صريحة لنبذ العربية الفصحى كما أسلفنا سابقاً والاستعاضة عنها بالعامية لاسيما في مصر ودعوة لاستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني في الكتابة هذا في المشرق العربي، أما في المغرب فكانت الخطة الموضوعة هي إحلال اللغة الفرنسية محل العربية بشكل مطلق لتكون هذه المنطقة حوضاً للثقافة الفرنسية دون أن تزاحمها لغة أخرى.

وقد جاءت الدعوة إلى العامية والتمصير والحرف اللاتيني أول ما جاءت على لسان مستشرق ألماني يعمل في مصر التي كانت تئن تحت سيطرة النفوذ الانكليزي إذ وضع ” فلهلم سبيتا” مدير دار الكتب المصرية آنذاك كتاباً في عام 1880 بعنوان “قواعد اللغة العربية في مصر” ومن هذا الكتاب انبعثت الدعوة لاتخاذ العامية لغة أدبية.. وانطلقت الشكوى من صعوبة الفصحى وفي هذا الكتاب وضع أول اقتراح لاتخاذ الحروف اللاتينية لكتابة العامية.

المناصرون لهذه الدعوة مستشرقون استعماريون استخدمتهم مراكز الاستشراق ليكونوا أداتها على الأرض والمنفذين لسياسات استعمارية بغيضة إضافة إلى تلامذة لهؤلاء المستشرقين وأعوان ساروا في هذا المركب المشين.

ودعواتهم كانت أقسى على اللغة العربية من دعوات الأجانب لأن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند.

وحين نقف على نماذج من دعوات أولئك وحججهم بهذا الخصوص وما ركزوا عليه لتخريب العقول والنفوس نشعر بمدى خطورة هذا المخطط الذي عملوا وفق سيناريوهاته واليوم يحاولون خلق سيناريوهات تناسب المرحلة الحالية والمقبلة بهدف التخريب والتمزيق ومحاولة وأد أي تطلع عربي نحو الوحدة العربية والتحرر.. وهؤلاء نعرفهم جيداً ونعرف أفكارهم التي تقود إلى الجحيم.

لقد أراد المستشرقون إحداث شرخ ثقافي في جسد الأمة العربية من خلال الاعتداء على لغتها الأم لأنها المستودع الذي يحمل فكر أبنائها.. حتى إن بعضهم وصف العرب بأوصاف لها أهداف تدميرية مثل ولكوكس الذي قال عن العرب: “كسالى، قتلة، لصوص، قطاع طرق، جبناء “هذه الأوصاف لا تطلق إلا وفق غايات وهذه الغايات نرى ترجمتها اليوم على الأرض من خلال تلك الهجمة الشرسة على بلداننا العربية.. كما اتخذ ولكوكس من مجلة الأزهر التي أصبح رئيساً لتحريرها منبراً للدعوة إلى العامية في مصر لكن وقوف أنصار الفصحى في وجهه والتصدي لدعوته وعدم التجاوب معه جعله يقف موقف المفلس لكن هذا لا يعني أن دعوته قد ماتت وإنما حاول الغرب تنفيذها من خلال أنصاره الذي راحوا يروجون لأفكار هدامة ومما قاله هؤلاء ومنهم سلامة موسى الذي دعا إلى” اصطناع العامية لغة أدب، والكتابة بالحروف اللاتينية لأن هذه الكتابة تضمنا إلى مجموعة الأمم المتمدنة وتكسبنا عقلية المتمدنين”.. ومما قاله نجيب الريحاني بهذا الخصوص: “اللغة العربية لا تصلح فقط للتمثيل والمسرح بل هي لا تصلح أن تكون أداة تفاهم في الحياة”.

وفي هذا ما يدل دلالة واضحة أن هؤلاء جميعاً كانوا يعملون ضد الأمة العربية وضد العروبة وضد كل ما يمت إليها وإلى نسبها العريق.

إلا ان فريقاً آخر دافع عن لغته الأم، وأكد أن هذه الدعوات هي دعوات استعمارية هدفها تقويض دعائم الأمة العربية ومما قاله عباس محمود العقاد بهذا الخصوص: “ومن واجب القارئ العربي إلى جانب غيرته على لغته أن يذكر أنه لا يطالب بحماية لسانه ولا مزيد على ذلك، ولكنه مطالب بحماية العلم من خسارة فادحة تصيبه مما يصيب هذه الأداة  العالمية من أدوات المنطق الإنساني، بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال، وأن بيت القصيد في هذا أعظم من القصيد كله، لأن السهم في هذه الرمية يسدد إلى القلب” ولا يقف عند الفم واللسان”.

لكن لغتنا العربية استطاعت أن تصمد أمام هجمات الغرب وأن تثبت أنها لغة حية وعصية على كل من يتربص بها شراً.

مقال رأي للكاتب نجاح حلاس نقلا عن صحيفة العروبة السورية


إضافة تعليق