جدران القيروان وقبابها تتألق بريشة فنان تونسي

جدران القيروان وقبابها تتألق بريشة فنان تونسي

في الزمن الرقمي الحديث الذي تغلغل في شتى جوانب الحياة يكافح فن الخط العربي العريق للاستمرار في مواجهة التحديات التي فرضتها عليه الوسائط الجديدة، ويسعى خطاط وفنان تشكيلي تونسي للحفاظ على هذا الفن في مدينته العريقة.

متسلقا كرسيا ومحتضنا معداته وريشاته، وسط ساحة إحدى المؤسسات الجامعية بمحافظة القيروان وسط تونس، يضع فنان تشكيلي بكل ثقة ومرونة، آخر اللمسات الفنية على لوحته الجدارية المزدانة بالحروف العربية والألوان البديعة.

صفوان ميلاد، فنان ثلاثيني، يقف ويتأمل ما أنجزت أنامله من بعيد وقلبه متعلق بعمله البديع الذي جعل جدران القيروان وقبابها تتألق بالخط العربي ورسوماته.

ويعيد ميلاد احتضان جداريته من جديد مرات ومرات، مضيفا نمنمات دقيقة من حروفه أو مازجا لونا يفيض بالحياة.

هذه الجدارية التي ولدت من أنفاس الخطاط والفنان التونسي، هي لوحة جديدة تضاف إلى أعماله، جامعة بين الخط العربي والفن التشكيلي لينشأ “الفن التشكيلي الحروفي”.

 

موروث ثقافي

جمع ميلاد في هذا الفن بين خلفيته الثقافية والحضارية التي ارتوت من الموروث الحضاري القيرواني، وتفاصيل الفن المعماري بأشكاله وزخرفته من جهة، وبين ما نهله من تكوين فني على يد والده الفنان التشكيلي خالد ميلاد، من جهة أخرى.

يبدي الفنان صفوان ميلاد حرصه الشديد على حفظ الذاكرة الثقافية العريقة لمدينة القيروان، وصون الخط العربي الذي يمثل هوية حضارية عربية -خاصة الكوفي القيرواني الذي برز خلال القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)- ومرجعية عقائدية للفن الإسلامي ومدونة تختزلها مخطوطات الرق الأزرق الشهير.

والرق الأزرق، مخطوط بماء الذهب بخط كوفي على جلد غزال نادر، يعود إلى عهد بني زيري (حكموا شمال أفريقيا من 972 ـ 1152م) ويحفظه المتحف الوطني للفن الإسلامي في “رقادة” بالقيروان، كأحد أندر التحف الفنية، وأغلاها ثمنا، وأعلاها قيمة تاريخية، وتوجد صفحات متفرقة منه في متاحف أوروبية.

 

فيض من المعاني

كما اختار ميلاد تجميل الخط العربي بألوان تفيض بالمعاني وتعطي الحروف إيقاعا نابضا بالحياة. وأثمر دمجه المميز للألوان والحروف، لوحات فنية تهمس لمشاهدها بأسرار وذكريات وتوقظ فنا كامنا فيه.

يقول ميلاد، “إن الخط العربي له بعد شكلي حضاري وآخر جمالي، وإذا دمج بالألوان فإنه يعطي بعدا ثالثا هو الفني الإبداعي”. ويضيف أنه “حريص على إحياء موروث الخط العربي الذي يكاد يندثر ويندر استخدامه”، مشيرا إلى “صلة روحية أيضا وعلاقة شخصية تغوص في معتقده”.

 

مهد الفن

انطلاقا من ورشته التي يتقاسمها مع والده منذ كان طفلا، يرسل ميلاد لوحات فنية متفاوتة الأحجام والأشكال ومختلفة المحامل، فيروّض بريشته الخشب والجلد والخزف والقماش، ويحولها من جماد صامت، إلى لوحة ناطقة تشع جمال الألوان في المعارض والأروقة.

وبعد خوض تجربة المعارض الفنية في عدد من الولايات داخل تونس وخارجها، كبر الطموح مع ذلك الطفل الذي ترعرع في ورشة والده ونهل من تجربته، وسعى إلى الخروج من كل الفضاءات الضيقة إلى ما هو أرحب من جمال الحرف واللون.

يقول ميلاد إنه “رغب في جعل لوحاته الفنية مفتوحة لعموم الناس في الشوارع والساحات دون قيود الفضاءات المغلقة، ومعالم الدخول وجوازات العبور”، ليجعل من كل جدارية معرضا دائما ومتاحا.

ومع بدء خوض تجربة الجداريات الفنية التي وشحت جدران مدينة القيروان في أكثر من معلم ومؤسسة شبابية وتعليمية، ملأ الفنان الفراغات بحروفه مشكلا أيقونات فنية تشع وسط معالم تاريخية بارزة.

وتحاكي هذه الجداريات في روحها الفنية وشكلها المعماري الأصيل المدينة، فيزين بعضها بعضا ويكمل بعضها البعض الآخر كأن من صممها وأبدعها فنان واحد.

قباب بألوان السماء

بفضل لمسات ميلاد على قباب المدينة العتيقة خاصة تلك المجاورة لجامع عقبة بن نافع بالقيروان (بني عام 50 للهجرة)، أصبحت القباب المزخرفة بألوان السماء، كأنما تسبح في أفق واحد يتسع أمام المتأمل مع مئذنة جامع عقبة.

عندما انكشف سره الفني، وشاعت ألوانه وحروفه وسط مدينة القيروان وعدة مدن بالشمال والجنوب، انفتحت ريشة ميلاد على الفضاءات التربوية والجامعية ودور الشباب.

شهد فن الخط العربي، على قيمته الحضارية والفنية، أفولا لافتا وتناسيا من أعمال المبدعين في ظل الزخم التكنولوجي والميول الفنية العصرية، ويكاد يتلاشى أمام خط الأجهزة الإلكترونية والتراسل الرقمي.

وسط منافسة حرجة ورغم تداعيات الأزمة الوبائية العالمية، استطاع ميلاد بفضل ما وجده من دعم، ترويج ذوقه الفني المفعم بتجديد التراث العتيق في أوساط الشباب من الطلاب وهواة الفنون.

وحفز ميلاد الشباب على المساهمة في ترجمة شغفهم وعنفوانهم الفني في لوحات جدارية تزين الفضاءات الشبابية تماما، كما أراد هو وطمح إلى أن يتسلم الشبان عنه مشعل تطوير فنه، كما طور هو ما كسب عن والده من فنون وأضفى عليها ذائقته وبصمته.

لا يقتصر طموح ميلاد على تمرير رسالته الفنية إلى الفضاء المحلي، وإنما “يجتهد لنشر ثقافة الخط العربي وفنونه في العالم، مواصلة لما بدأه منذ سنوات من مشاركات أوروبية” بحسب قوله.

ويأمل ألا تدوم حواجز أزمة كورونا ليتمكن من نشر رسالته الحضارية المتجددة.

المصدر: موقع حدوته نيوز

 


إضافة تعليق